كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73)}.
قوله: {لِّلْمُقْوِينَ}: يُقال: أَقْوَى الرجلُ: إذا حلَّ في الأرض القِواءِ، وهي القَفْرُ، كأصْحَرَ: دَخَلَ في الصحراء. وأَقْوَتِ الدار: خَلَتْ، مِنْ ذلك لأنها تصير قَفْرًا. قال النابغة:
يا دارَميَّةَ بالعَلْياءِ فالسَّنَدِ ** أَقْوَتْ وطال عليها سالفُ الأبَدِ

{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)}.
قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ}: قرأه العامة: {فلا}، لامَ ألفٍ، وفيها أوجهٌ، أحدُها: أنها حرفُ نفي، وأنَّ المنفيَّ بها محذوفٌ، وهو كلامُ الكافرِ الجاحدِ تقديرُه: فلا حُجَّةَ لِما يقول الكافرُ، ثم ابتدأ قَسَمًا بما ذَكَر، وإليه ذهب جماعةٌ من المفسِّرين والنَّحْويين. وضُعِّفَ هذا: بأنَّ فيه حَذْفَ اسمِ (لا) وخبرِها. قال الشيخ: ولا يجوز. ولا ينبغي؛ فإن القائلَ بذلكَ مثلُ سعيدِ بنِ جُبير تلميذِ حَبْر القرآن وبحرِه عبدِ اللَّهِ ابن عباس رضي الله عنهما، ويَبْعُدُ أَنْ يقوله سعيدٌ إلاَّ بتوقيف.
الثاني: أنها زائدةٌ للتوكيدِ، مِثْلُها في قوله تعالى: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ} [الحديد: 29] والتقدير: فأُقْسِمُ، وليَعْلَمَ، وكقوله:
فلا وأَبي أعدائِها لا أَخُوْنُها

الثالث: أنَّها لامُ الابتداءِ. والأصلُ: فَلأُقْسِمُ فأُشْبِعَتْ الفتحةُ فتولَّد منها ألفٌ، كقوله:
أَعوذُ باللَّهِ من العَقرابِ

قاله الشيخُ، واستشهدَ بقراءة هشام {أَفْئِيْدَة}. قلت. وهذا ضعيفٌ جدًا، واستند أيضًا لقراءة الحسن وعيسى {فَلأُقْسِمُ} بلامٍ واحدةٍ. قلت: وفي هذه القراءة تخريجان أحدُهما: أنَّ اللامَ لامُ الابتداءِ، وبعدَها مبتدأٌ محذوفٌ، والفعلُ خبرُه، فلمَّا حُذِفَ المبتدأُ اتصلَتْ اللامُ بخبرِه وتقديرُه: فلأَنا أٌقْسِمُ نحو: لَزيدٌ منطلقٌ، قاله الزمخشري وابن جني. والثاني: أنها لامُ القسمِ دخَلَتْ على الفعل الحالي. ويجوز أَنْ يكونَ القسم جوابًا للقسمِ كقوله: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا} [التوبة: 107] فنفسُ {ليَحْلِفُنَّ} قسمٌ جوابُه {إنْ أرَدْنَا} وهو جوابٌ لقسمٍ مقدرٍ، كذلك هذا، وهو قول الكوفيين: يُجيزون أَنْ يُقْسَم على فعلِ الحالِ. البصريُّون يَأْبَوْنه ويُخَرِّجون ما يُوهم ذلك على إضمار مبتدأ فيعود القسم على جملةٍ اسمية. ومنع الزمخشري أن تكونَ لامَ القسمِ قال: لأمرَيْن، أحدهما: أنَّ حَقَّها أَنْ تُقْرَنَ بالنونِ المؤكدةِ، والإِخلالُ بها ضعيفٌ قبيحٌ. والثاني: أنَّ لأفعلنَّ في جواب القسم للاستقبالِ، وفعلُ القسمِ يجب أَنْ يكونَ للحال. وهذا كما تقدَّم أنه يرى مذهبَ البَصرْيين، ومعنى قوله: وفعلُ القَسَمِ يجبُ أنْ يكونَ للحال. يعني أنَّ فِعْلَ القسمِ إنشاءٌ والإِنشاءُ حالٌ. وإمَّا قوله: أَنْ يُقْرن بها النونُ. هذا مذهبُ البصريين. وأمَّا الكوفيون فيجيزون التعاقبَ بين اللام والنونِ نحو: واللَّهِ لأَضْرِبُ زيدًا كقوله:
لَئِن تَكُ قد ضاقَتْ عليكم بيوتُكمْ ** لَيَعْلَمُ ربِّي أنَّ بيتيَ واسعُ

وواللَّهِ اضربَنَّ زيدًا كقوله:
وقتيلُ مُرَّةَ أَثْأَرَنَّ

وقد تقدَّم قريبٌ من هذه الآية في قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ} [النساء: 65] ولكن هناك ما لا يُمْكن القول به هنا كما أنَّ هنا ما لا يمكن القول به هناك، وسيأتي قريبٌ منه في القيامةِ في قراءة ابن كثير {لأُقْسِمُ بيوم القيامة} [القيامة: 1].
وقرأ العامة: {بمواقِع} جمعًا، والأخَوان {بموقع} مفردًا بمعنى الجمع لأنَّه مصدرٌ فوُحِّدَ، ومواقعُها: مَساقِطُها ومَغارِبُها.
وقيل: سُقوطُها يوم تَنْكَدِرُ. وقيل: النجومُ للقرآن، ويؤيِّدُه {وإنَّه لَقَسَمٌ}، و{إِنَّهُ لقرآن كَرِيمٌ} والمُقْسَمُ عليه قوله: {إِنَّهُ لقرآن كَرِيمٌ} وعلى هذا فيكونُ في الكلام اعتراضان، أحدُهما: الاعتراضُ بقوله: {وإنه لَقَسَمٌ} بين القسمِ والمُقْسَم عليه، والثاني: الاعتراضُ بقوله: {لو تعلمون} بين الصفةِ والموصوفِ. وأبى ابنُ عطية أَنْ يُجْعَلَ قوله: {وإنَّه لَقَسَمٌ} اعتراضًا فقال: {وإنه لَقَسَمٌ} تأكيدٌ للأمرِ وتنبيهُ المُقْسَم به، وليس هذا باعتراضٍ بين الكلامَيْن، بل هذا معنىً قُصِدَ التَّهَمُّمُ به، وإنما الاعتراضُ قوله: {لو تعلمون} قلت: وكونُه تأكيدًا ومُنَبِّهًا على تعظيمِ المُقْسَمِ به لا يُنافي الاعتراضَ بل هذا معنى الاعتراضِ وفائدتُه.
{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)}.
قوله: {لاَّ يَمَسُّهُ}: في (لا) هذه وجهان، أحدهما: أنها نافيةٌ فالضمةُ في {لا يَمَسُّه} ضمةُ إعرابٍ، وعلى هذا القول ففي الجملةِ وجهان، أحدهما: أنَّ محلَّها الجرُّ صفةً لـ: {كتاب} والمرادُ بـ: {كتاب}: إمَّا اللوحُ المحفوظُ، والمُطهَّرون حينئذٍ الملائكةُ أو المرادُ به المصاحف، والمرادُ بالمُطهَّرين المكلَّفون كلُّهم. والثاني: أن محلَّها الرفعُ صفةً لقرآن، والمرادُ بالمطهَّرينِ الملائكةُ فقط أي: لا يَطَّلع عليه أو لا يَمَسُّ لَوْحَه. لابُدَّ من أحد هَذَيْن التجوُّزَيْن؛ لأن نسبةَ المسِّ إلى المعاني حقيقةً متعذَّرٌ. ويؤيِّد كونَ هذه نفيًا قراءة عبد الله {ما يَمَسُّه} بـ: (ما) النافيةِ.
والثاني من الوجهين الأوَّلَيْن: أنها ناهيةٌ، والفعلُ بعدها مجزومٌ؛ لأنه لو فُكَّ عن الإِدغامِ لظهر ذلك فيه كقوله: {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء} [آل عمران: 174] ولكنه أَدْغم، ولَمَّا أُدْغِمَ حُرِّك آخرُه بالضمِّ لأجلِ هاء ضميرِ المذكرِ الغائبِ، ولم يَحْفَظْ سيبويه في نحوِ هذا إلاَّ الضمَّ. وفي الحديث: «إنَّا لم نَرُدُّه عليك إلاَّ أننا حُرُمٌ» وإن كان القياسُ يَقْتضي جوازَ فَتْحِه تخفيفًا، وبهذا الذي ذكرْتُه يظهر فسادُ رَدِّ مَنْ رَدَّ: بأنَّ هذا لو كان نَهْيًا لكان يُقال: {لا يَمَسَّه} بالفتح؛ لأنه خَفي عليه جوازُ ضَمِّ ما قبل الهاءِ في هذا النحوِ، لاسيما على رأيِ سيبويه فإنه لا يُجيز غيرَه. وقد ضَعَّفَ ابنُ عطية كونَه نهيًا: بأنه إذا كان خبرًا فهو في موضعِ الصفةِ، وقوله بعد ذلك {تنْزيلٌ} صفةٌ فإذا جعلناه نَهْيًا كان أجنبيًا معترضًا بين الصفاتِ وذلك لا يَحْسُن في رَصْفِ الكلامِ فتدبَّرْه. وفي حرف ابن مسعود {ما يمسُّه} انتهى.
وليس فيما ذكرَه ضَعْفٌ لهذا القول؛ لأنَّا لا نُسَلِّم أنَّ {تنزيل} صفةٌ، بل هو خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: هو تنزيلٌ فلا يَلْزَم ما ذَكرَه من الاعتراضِ. ولَئِنْ سَلَّمْنَا أنه صفةٌ ف {لا يَمَسُّه} صفةٌ أيضًا، فيُعْترض علينا: بأنه طلبٌ. فيُجاب: بأنه على إضمارِ القول أي: مقول فيه: لا يمسُّه، كما قالوا ذلك في قوله: {فتنةً لا تصيبَنَّ} على أنَّ {لا تصيبنَّ} نَهْيٌ وهو كقوله:
جاؤوا بمَذْقٍ هل رأيْتَ الذئبَ قطّ

وقد تقدَّم تحقيقُه في الأنفال، وهذه المسألةُ يتعلَّقُ بها خلافُ العلماء في مَسِّ المُحْدِث المصحفَ، وهو مبنيٌّ على هذا، وسيأتي تحقيقُه بأشبعَ مِنْ هذا في كتاب (أحكام القرآن) إن شاء الله تعالى إتمامَه.
وقرأ العامة: {المُطَهَّرون} بتخفيف الطاء وتشديد الهاء مفتوحةً اسمَ مفعول، وعن سلمان الفارسي كذلك، إلاَّ أنه بكسرِ الهاء اسمَ فاعلٍ أي: المُطَهِّرون أنفسَهم، فحذف مفعولَه. ونافع وأبو عمروٍ في رواية عنهما وعيسى بسكون الطاء وفتح الهاء خفيفة اسم مَفعول من أطهر. وزيد والحسن وعبد الله بن عون وسلمان أيضًا {المُطَّهِّرُوْن} بتشديدِ الطاءِ والهاءِ المكسورةِ، وأصلُه المتطهِّرون فأُدْغِم. وقد قرئ بهذا الأصلِ أيضًا.
{تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)}.
وقرئ: {تنزيلًا} بالنصب على أنه حال من النكرة. وجاز ذلك لتخصُّصِها بالصفةِ، أو أَنْ يكونَ مصدرًا لعاملٍ مقدر أي: نُزِّل تنزيلًا، وغَلَب التنزيلُ على القرآن.
و{من رَبِّ} يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ به على الأول لا الثاني؛ لأن المؤكَّد لا يعملُ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ له، وأمَّا على قراءة {تنزيل} بالرفعِ فيجوز الوجهان.
{أَفَبِهَذَا الْحَديث أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81)}.
قوله: {أفبهذا}: متعلِّقٌ بالخبر، وجازَ تقديمُه على المبتدأ؛ لأنَّ عامله يجوزُ فيه ذلك. والأصل: أفأنتم مُدْهِنون بهذا الحديث وهو القرآن. ومعنى {مُدْهِنون}: مُتهاوِنون كمن يُدْهِنُ في الأمر أي: يُلَيِّنُ جانبَه ولا يتصلَّب فيه تهاوُنًا به يقال: أَدْهَن فلانٌ أي: لايَنَ وهاوَدَ فيما لا يُحْمَلُ عند المُدْهَنِ. قال الشاعر:
الحَزْمُ والقُوَّةُ خيرٌ من الْ ** إدْهانِ والفَهَّةِ والهاعِ

وقال الراغب: والإِدهانُ في الأصل مثلُ التدهين لكن جُعِل عبارةً عن المُداراة والمُلاينة وتَرْكِ الجدِّ، كما جُعِل التقريدُ وهو نَزْعُ القراد، عبارةً عن ذلك.
{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)}.
قوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ}: فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه على التهكُّم بهم؛ لأنهم وَضَعوا الشيءَ غيرَ موضعِه كقولك: (شَتَمني حيث أَحْسَنْتُ إليه) أي: عَكَسَ قضيةَ الإِحسانِ ومنه:
كأن شُكْرَ القَوْمِ عند المِنَنِ ** كيُّ الصَحيحاتِ وفَقْءُ الأعينِ

أي: شُكْرَ رِزْقِكم تكذيبَكم، الثاني: أنَّ ثَمَّ مضافَيْنِ محذوفَيْنِ، أي: بَدَل شُكْرِ رِزْقكم ليَصِحَّ المعنى قاله جمال الدين بن مالك، وقد تقدَّم لك في قوله: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} [النجم: 9] أكثرُ من هذا. الثالث: أنَّ الرِّزْقَ هو الشُّكْرُ في لغةِ أزدِ شنوءة: ما رَزَقَ فلانٌ فلانًا أي: ما شكره، فعلى هذا لا حَذْفَ البتةَ، ويُؤَيِّدُهُ قراءة علي بنِ أبي طالب وتلميذِه عبد الله بن عباس رضي الله عنهم {وتَجْعَلون شُكْرَكم} مكان {رِزْقَكم}.
وقرأ العامة: {تُكَذِّبون} من التكذيب. وعلي رضي الله عنه وعاصمٌ في رواية المفضل عنه {تَكْذِبون} مخففًا من الكَذِب.
{فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83)}.
قوله: {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم}: ترتيبُ الآيةِ الكريمة: فلولا تَرْجِعُونها أي النفسَ إذا بلغت الحلقومَ إن كنتم غيرَ مَدِيْنين. و{فلولا} الثانيةُ مكررةٌ للتوكيدِ. قاله الزمخشريُّ. قلت: فيكونُ التقدير: فلولا فلولا تَرْجِعونها، من باب التوكيد اللفظي، وتكون {إذا بَلَغَت} ظرفًا لـ: {تَرْجِعونها} مقدَّمًا عليه؛ إذ لا مانعَ مِنْه، أي: فلولا تَرْجِعون النفسَ في وقتِ بُلوغها الحلقومَ. وقوله: {وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} جملةٌ حالية مِنْ فاعل {بَلَغَتْ}، والتنوينُ في {حينئذٍ} عِوَضٌ من الجملة المضافِ إليها (إذا)، أي: إذا بلغَتْ الحلقومَ خلافًا للأخفش حيث زعمَ أن التنوينَ للصَّرْفِ والكسرَ للإِعرابِ، وقد مضى تحقيقُه.
{وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84)}.
وقرأ العامَّةُ بفتحِ نونِ {حينئذٍ} لأنَّه منصوبٌ على الظرفِ ناصبُه {تَنْظُرون} وعيسى بكسرها، وهي مُشْكِلَةٌ لا تَبْعُدُ عن الغَلَطِ عيله، وخُرِّجَتْ على الإِتباع لحركة الهمزة، ولا غَرْوَ في ذلك فليسَتْ بأبعدَ من قراءة {الحمد للَّهِ} [الفاتحة: 1] بكسر الدال لتلازُمِ المتضايفَيْنِ ولكثرةِ دَوْرِهما على الخصوص.
{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85)}.
قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ}: يجوزُ أَنْ يكونَ حالًا أي: تَنْظُرون في هذه الحالِ التي تَخْفَى عليكم، وأن تكونَ مستأنفةً، فتكونَ اعتراضًا، والاستدراكُ ظاهرٌ. والبَصَرُ: يجوز أَنْ يكونَ من البصيرة، وأَنْ يكونَ من البَصَرِ أي: لا تَنْظُرون أعوانَ مَلَكِ الموتِ.
{فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86)}.
و {إِن كُنتُمْ}: شرطٌ جوابُه محذوفٌ عند البَصْريين لدلالةِ {فلولا} عليه أو مقدَّمٌ عند مَنْ يرى ذلك، كما تقدَّمَ تقريرُه. والحُلْقُوْمُ: مَجْرى الطعامِ. و{مَدِيْنين} أي: مَسُوسين، أو محاسَبين، أو مجازِين. وقد تقدَّم ذلك أولَ الفاتحة ولله الحمدُ. وهذا ما تلخص في الآية الكريمة محرَّرًا. وقال أبو البقاء: و{تَرْجِعونها} جوابُ (لولا) الأولى، وأغنى ذلك عن جوابِ الثانية وقيل عكسُ ذلك. وقيل: لولا الثانيةُ تكريرٌ. انتهى. وتسميةُ مثلِ هذا جوابًا ليس بصحيح البتَة؛ لأنَّ هذه تحضيضيةٌ لا جوابَ لها، إنما الجوابُ للامتناعيةِ لوجودٍ نحو: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله} [النساء: 83].
وقال ابن عطية: وقوله: {تَرْجِعونها} سَدَّ مَسَدَّ الأجوبةِ والبياناتِ التي تَقْتَضيها التَّحْضيضاتُ، و(إذا) مِنْ قوله: {فلولا إذا} و(أن) المكررة، وحَمَلَ بعضُ القول بعضًا إيجازًا واقتضابًا. انتهى. فجعل (إذا) شرطيةً. وقوله: الأجوبة. يعني لـ: (إذا) ول (أن) ول (أن) في قوله: {إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ}، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. والبياناتُ يعني الأفعالَ التي حَضَّض عليها، وهي عبارةٌ قَلِقَةٌ، ولذلك فَسَّرْتُها.
قال الشيخ: وإذا ليسَتْ شرطًا؛ بل ظرفًا يعمل فيها {تَرْجعونها} المحذوفُ بعد (لولا) لدلالةِ {تَرْجِعونها} في التحضيض الثاني عليه، فجاء التحضيضُ الأولُ مقيَّدًا بوقتِ بلوغِ الحُلْقومِ. وجاء التحضيضُ الثاني مُعَلَّقًا على انتفاء مَرْبُوْبيَّتهم وهم لا يَقْدرون على رَجْعِها إذ مَرْبُوبِيَّتُهم موجودةٌ، فهم مقْهورون لا قُدْرَةَ لهم. انتهى. فجعل {تَرْجِعونها} المذكورَ لـ: (لولا) الثانية، وهو دالٌّ على محذوفٍ بعد الأولى، وهو أحد الأقوالِ التي نَقَلها أبو البقاء فيما تقدم.
{تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88)}.
قوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: شرطٌ آخرُ، وليس هذا من اعتراضِ الشرطِ على الشرطِ نحو: (إنْ ركبتِ إنْ لَبِسْتِ فأنتِ طالق) حتى يجيءَ فيه ما قَدَّمْتُه في هذه المسألةِ؛ لأنَّ المرادَ هنا: إنْ وُجِد الشرطان كيف كانا فهلا رَجَعْتُمْ بنفِس الميتِ.
قوله: {فَأَمَّآ إِن كَانَ} قد تقدَّم الكلامُ في (إمَّا) في أولِ هذا الموضوعِ مستوفىً ولله الحمدُ. وهنا أمرٌ زائدٌ وهو وقوعُ شرطٍ آخرَ بعدها. واختلف النحاةُ في الجوابِ المذكورِ بعدها: هل هو لـ: (أمَّا) أو لـ: (أن)، وجوابُ الأخرى محذوفٌ لدلالةِ المنطوقِ عليه، أو الجوابُ لهما معًا؟ ثلاثةُ أقوالٍ، الأولُ لسيبويه والثاني للفارسيِّ في أحدِ قوليْه، وله قول آخرُ كسيبويهِ، والثالث للأخفش، وهذا كما تقدَّم في الجوابِ بعد الشرطَيْن المتواردَيْن. وقال مكي: ومعنى (أمَّا) عند أبي إسحاقَ الخروجُ مِنْ شيءٍ إلى شيءٍ، أي: دَعْ ما كُنَّا فيه وخُذْ في غيره. قلت: وعلى هذا فيكونُ الجوابُ لـ: (أن) فقط لأنَّ (أمَّا) ليسَتْ شرطًا. ورجَّح بعضُهم أنَّ الجوابَ لـ: (أمَّا)؛ لأنَّ (أن) كَثُرَ حَذْفُ جوابِها منفردةً، فادِّعاءُ ذلك مع شرطٍ آخرَ أَوْلَى. والضميرُ في (كان) و(كان) للمتوفَّى لدلالةِ قوله: {فلولا تَرْجِعُونَها}.
{فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89)}.
والرَّوْحُ: الاستراحةُ، وقد تقدَّم ذلك في يوسف. وقرأ ابن عباس وعائشة والحسن وقتادة في جماعةٍ كثيرة بضمِّ الراءِ، وتُرْوَى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم. قال الحسن: الرَّوْحُ: الرحمةُ؛ لأنها كالحياة للمرحومِ. وعنه أيضًا: رُوْحُه تَخْرُج في رَيْحان. وقد تقدَّم الكلامُ على {رَيْحَانٌ} والخلافُ فيه وكيفيةُ تصريفِه في السورةِ قبلها.
و [قوله]: {فَرَوْحٌ} مبتدأٌ، خبرُه مقدَّر قبلَه أي: فله رَوْحٌ. ويجوزُ أَنْ يُقَدَّر بعدَه لاعتمادِه على فاءِ الجزاءِ.
{فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91)}.
قوله: {فَسَلاَمٌ لَّكَ}: مبتدأٌ وخبرٌ. و{مِنْ أصحاب}. قال الزمخشري: فسلامٌ لك يا صاحبَ اليمين من إخوانك إصحابِ اليمينِ، أي: يُسَلِّمون عليك. وقال ابن جرير: معناه فسلامٌ لكَ أنت مِنْ أصحابِ. وهذا يَحْتمل أَنْ يكونَ كقول الزمخشريِّ، ويكونَ (أنت) تأكيدًا للكافِ في (لك)، ويَحْتمل أَنْ يكونَ أراد أنَّ (أنت) مبتدأٌ و{من أصحابِ} خبرُه، ويؤيِّدُ هذا ما حكاه قومٌ مِنْ أنَّ المعنى: فيُقال لهم: سلامٌ لك إنَّك من أصحاب اليمين. وأولُ هذه الأقوالِ هو الواضحُ البيِّن؛ ولذلك لم يُعرِّجْ أبو القاسمِ على غيرِه.
{وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)}.
قوله: {وَتَصْلِيَةُ}: عطفٌ على {فُنُزُل} أي: فله نُزُلٌ وتَصْلِيَةٌ. وقرأ أبو عمروٍ في روايةِ اللُّؤْلؤي عنه وأحمد بن موسى والمنقري بجرِّ التاءِ عَطْفًا على {مِنْ حميمٍ}.
{إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95)}.
قوله: {حَقُّ اليقين}: فيه وجهان، أحدهما: هو من إضافةِ الموصوفِ لصفتِه. والثاني: أنه من باب إضافةِ المترادَفَيْن على سبيل المبالغةِ. وسهَّلَ ذلك تخالُفُ لفظِهما. وإذا كانوا فعلوا ذلك في اللفظِ الواحدِ فقالوا: صوابُ الصوابِ، ونفس النفس، مبالغةً فَلأَنْ يَفْعلوه عند اختلافِ اللفظِ أَوْلَى.
{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)}.
قوله: {باسم رَبِّكَ}: يجوزُ أَنْ تكونَ الباءُ للحال أي: فسَبِّحْ مُلْتَبِسًا باسمِ ربك على سبيلِ التبرُّكِ كقوله: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} [البقرة: 30]، وأَنْ تكونَ للتعديةِ، على أنَّ (سَبَّح) يتعدَّى بنفسه تارةً كقوله: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ} [الأعلى: 1] وبحرفِ الجرِّ تارةً كهذه الآيةِ، وادعاءُ زيادتها خلافُ الأصلِ.
و{العظيم} يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً للاسم، وأَنْ يكونَ لربك؛ لأنَّ كلًا منهما مجرورٌ. وقد وُصِفَ كلٌّ منهما في قوله: {تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ ذُو الجلال} [الرحمن: 78] و{ذي الجلال}. ولتغايُرِ المتضايفَيْن في الإِعراب ظهر الفرقُ في الوصف. اهـ.